السبت - 06 نوفمبر 2021 - الساعة 12:18 ص
مقـــدمــة :
لقد رفع العرب منذ الحرب العالمية الثانية شعار الوحدة، كحلم في الفضاء العربي إلا ان ما جرى في الواقع كان مغاير تماما لذلك الشعار، الذي ارتبط دائماً بواقع مختلف تماماً يتعارض مع كل الطموحات والمحاولات الوحدوية وقد ادى ذلك إلى إجهاض جميع المحاولات الوحدوية.
ففي احيانا كثيرة استخدمت بعض النظم العربية والأحزاب السياسية شعار الوحدة كشعاراً للمزايدة السياسية أو لاطماع ذاتية التي تكرس الاستبداد والتهميش والصراع، وقد تعرض أول نموذج عربي للوحدة - كالوحدة بين مصر وسوريا - في منتصف القرن الماضي التي فشلت بعد ثلاث سنوات ونصف من قيام اعلانها ، ثم عادة الامور إلى نصابها الحقيقي بعد الفشل . كان الرئيس عبد الناصر حكيماً عندما قرر فك الارتباط بين الدولتين وعودة الأمور إلى نصابها ، ولم يتشبث بالوحدة الفاشلة ، ويتقوى بمصر الذي تمثل الطرف المتفوق سكانا على سوريا ، إذ لم يقوم بنهب سوريا وطرد اهلها ، كما لم يقول بان السوريين انفصاليين وخونة وكفرة أو يعلن حربا ضد هم مثلما قام به صالح ونظام صنعاء في اليمن وشنوا حربا على الطرف الاخر للوحدة (الجنوب).
وادة اليمن هي التجربة العربية الثانية حيث اعلنت الوحدة بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية (1990) ، وقد ظهر ملامح فشلها منذ اعلانها مباشرة في سنتها الأولى، هذا الفشل قد أكدته حرباً ضروساً شنها الطرف المتمثل بالجمهورية العربية اليمنية على جمهورية اليمن الديمقراطية ارضاً وانساناً ، وبهذه الحرب وما تلاها من جرائم يمكن ان نطلق عليها جرائم ابادة شاملة طالت ابناء الجنوب ، كانت قد قضت على الوحدة في الواقع والنفوس تما ماً ، وبموجبها صار الجنوب واقع تحت احتلال الشمال بكل ما تعنيه الكلمة من معنى .
ونظراً لغياب الدراسات والرؤى التي تقوم على المحددات النظرية في تناول أسباب فشل الوحدة ، فإننا هنا سوف نتناول فشلها بالاستناد على الأسس والمنطلقات العلمية التي تقوم عليها أي وحدة والأسباب التي تؤدي إلى فشلها، فدون معرفة ذلك فقد يجّير مطلب شعب الجنوب المتمثل بالحرير والاستقلال بشكل خاطي لاسيما في اوساط النخب القومية والبعيدة عن معرفة الواقع ، خصوصا في ظل التعتيم والتضليل الاعلامي على قضية الجنوب وحراكه السلمي .
فشل الوحدة منذ إعلانها :
الوحدة التي اعلن عنها بين الدولتين اليمنيتين لم تستند على الاسس والمنطلقات العلمية ، ومن ثم لم تستطيع ان تكون وحدة قابلة للاستمرار ، فمنذ توقيع القيادتين السياسيتين في البلدين في 30 من شهر نوفمبر 1989 م على اتفاقية الوحدة وحتى قيام الحرب التي قضت على المشروع الوحدوي تماما ، واجتياح الجنوب بالقوة العسكرية ، لقد جرت في الواقع احداثا كبيرة، بينت ذلك الخلل والفشل الذي رافق هذا الإعلان ، ففي تلك الفترة التي اعلن فيها قيام الوحدة جرت احداث دراماتيكية متسارعة ومتعجلة ..؟ واقل ما يمكن القول عنها بأنها سلوكيات افراد غير مسؤولة عبثية من ناحية، وحصيلة لمؤامرات داخلية وخارجية من ناحية اخرى، إذ كان الجنوب ضحية ناتجة عن ما خلفته ثلاث قوى هي :
( صراع الحرب البادرة / الفكر القومي / الاطماع الامبريالية ) .
فالوحدة المعلنة لم تستند على اُسس علمية ومعطيات واقعية، بل كانت نتيجة للوعي الزائف واثار القوى المذكورة أعلاه، إذ ان الفشل كان متوقع بالضرورة نتيجة لتك الطريقة التي تم بموجبها تم إعلان الوحدة ، ووضعتها في إشكال بنيوي كبير، بدأ هذه الإشكال منذ إعلانها في بداية المرحلة الانتقالية عندما واجهت تحديات أعاقت سير دمج مؤسسات الدولتين ، واستمر هذا الاشكال في تصاعد مضطرد ، الامر الذي عمق معه الاختلاف بين طرفي الوحدة لاسيما بعد انتخابات عام 1993 م، ثم اعلنت الحرب على الجنوب في عام 1994.
إن هذا الإشكال يعود إلى طبيعة التباين الواضح بين مقومات الوحدة في المجتمعين والدولتين، والدوافع التي قامت على أساسها الوحدة عندهما والمرتبطة بتباين مواقف القيادتين السياسيتين في البلدين. وقد أدى هذا التباين والاختلاف إلى تصاعد الخلافات الكبيرة بين قيادتين سياسيتين متباينتين الذي هو في الأساس يعود إلى اختلاف بين المنهجين السياسيين في الدولتين فضلا عن الاختلاف الاقتصادي والفكري والثقافي بين البلدين والشعبين.
لم ينظر إلى ذلك التباين والاختلاف عند اعداد وثيقة الوحدة ، وهو تباين واختلاف اساسي في مقومات الوحدة والدوافع التي قامت على أساسها، مما أدى إلى أزمة الوحدة التي هي بالضرورة ادت إلى فاشلها الحقيقي في الواقع.
وبسبب فشل الوحدة ظهرت قضية الجنوب، ومع الاسف الشديد لم يتفهم البعض من النخب السياسية والفكرية في الوطن العربي بعامة لها، ولم تبحث المشكلة من المنظور العلمي ، بل ظلت كل الكتابات تدور في اطار التناول السياسي السطحي المشحون بالعواطف وهاجس الوحدة والتوحد ، نظرا لما سبقها من تعبئة وخطب سياسية قومية عصبوية، دون الامعان بمقومات الوحدة اليمنية وعلاقة تلك المقومات بما تحقق على أرض الواقع ، بل لم تبحث دوافع القيادات السياسية تجاه هذه الوحدة والفترة التي اعلنت فيها .
ونظراً لاختلاف الرؤى وتباين التحليلات حول محددات وأهداف الوحدة اليمنية وقصورها، سوف نتناول ذلك من منظور علمي يبحث في خلفيات العلاقة بين مقومات الوحدة اليمنية ودوافع قيامها ونتائجها والأهداف الحقيقية الكامنة وراء ذلك السلوك السياسي الظاهري للقيادتين السياسيتين في الدولتين وتفسر القرارات التي تم اتخاذها لإعلان قيام الوحدة اليمنية في الثاني والعشرين من شهر مايو عام 1990؟ . بالاستناد على ما جاء في نظريات الوحدة.
نظرية التكامل بين الدول :
حددت نظرية التكامل عدد من المفاهيم والأطروحات النظرية لقيام الوحدة والتكامل بين الدول حيث ظهرت هذه النظرية في النصف الأول من القرن العشرين. اهتم بها العديد من الباحثين في الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية، واهتمت بعض النظريات الاجتماعية والسياسية في تفسير قيام الوحدات بين الشعوب، والتي تحاول البحث في أفضل المناهج التي تؤدي بالدول إلى الوحدة والتكامل ، ونبذ الصراعات السياسية والعسكرية ، خاصة بعد أن واجه العالم حربين كونيتين والعديد من الحروب والصراعات الإقليمية والأهلية ذات الأبعاد الدولية ، حيث ظهرت نظريات التكامل التي تشير إلى أن الوحدة بين الدول لا تتحقق إلاّ من خلال بوابة التكامل. وارتبطت نظريات التكامل في مجملها بالمحاولات التكاملية الأوروبية، كانت هذه النظريات قد استلهمت أسسها من التجربة الأوروبية، وصيغة بما عُرف بأدبيات التكامل السياسي.
إذ يرى دويتش أن القوة الطبيعية التي تؤدي إلى التكامل ومن ثم إلى الوحدة تكمن في التفاعل بين الأفراد في المجتمعات في مختلف الوحدات المكونة للتكامل. فالتكامل هو الحالة التي ” تمتلك فيها جماعة معينة تعيش في منطقة معينة شعوراً كافياً بالجماعية وتماثلاً في مؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية وسلوكها الاجتماعي إلى درجة تتمكن فيها هذه الجماعة من التطور بشكل سلمي. ويقول أن أفضل وسيلة إلى التكامل هي بناء قاعدة شعبية متفاعلة ومتواصلة ومنسجمة، تحكمها قيم ومفاهيم وثقافة مشتركة، ويتابع القول ان هذه لا تتحقق إلا من خلال تفعيل عملية التواصل الثقافي والمعرفي بين مختلف شرائح المجتمعات الأعضاء في الجماعة.
ان عملية الحراك الاجتماعي المتمثل في حرية انتقال الأفراد والجماعات والثقافات والقيم والاتصالات باختلاف أشكالها عبر الحدود بين تلك المجتمعات سوف تساعد على تقوية اُسس التواصل المجتمعي بين الشعوب المتجاورة ، كما ان طبيعة النظم السياسية للدول المتجاورة تساعد هي الأخرى على تحقق التكامل ، وتبين نظريات الوحدة انه عندما يتحقق التكامل بين الدول بدوره سيخفف العبء على القيادات السياسية في تحقيق التكامل والوحدة بين الدول.
وهذا ما لم يكون قائم بين الدولتين في اليمن قبل إعلان الوحدة، بل على العكس من ذلك تماما ظل العلاقة بين الدولتين علاقة مضطربة وحروب دائمة، وتباين في توجهات كل منهما في الجوانب المختلفة، بل كان المواطن في الدولتين في اليمن يستطيع التحرك والسفر إلى أي بلد في العالم ، لكنه لا يستطيع السفر إلى الدولة اليمنية الاخرى . المجاورة له.
ثلاثة مراحل للوصول إلى الوحدة:
تبين نظرية الوحدة ثلاث مراحل تسبق قيام الوحدة ، يرى دويتش ان منطق تحقيق السلم (نبذ العنف ) هو الذي يضمن استبعاد الحرب بين العناصر المكونة للدولة الموحدة، هذه المرحلة الأولى التي من خلالها نضمن استبعاد وجود الحرب بين الأطراف وذلك يتحقق من خلال السير في اتباع الخطوات التدريجية للوحدة ، ثم تأتي مرحلة تفعيل التواصل الشعبي والنخبوي وحرية الانتقال للأفراد بين المجتمعين عبر تشكل بعض مؤسساتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية المشتركة.
وتليها المرحلة الاندماجية وهي المرحلة الأخيرة من سلسلة التكامل بين الدول وتستمر عدة سنوات ، ففي هذه المرحلة تكون الدول المكونة للاتحاد قد بنت جميع مؤسساتها المشتركة ووضعت أنظمتها وقوانينها. وأن مرحلة الاندماج بين الدول هي مرحلة سيادة الدولة فلا يمكن ان تتحقق إلا من خلال تفاعلات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية ومعرفية تضمن الاستحقاقات التاريخية والحضارية والديمغرافية للدول الاطراف في الوحدة.
فانعدام التفاعل والتواصل بين المجتمعات يؤدي إلى عدم التجانس الثقافي والقيمي، حيث يربط بين الاتصال المجتمعي باعتباره الرابط الذي يُمكن التنظيمات الاجتماعية من التفكير والبحث وخلق مشاعر تعاونية ودية فيما بينها وبين تحقيق التكامل بين المجتمعات السياسية ، والشعوب تحقق وحدتها كلما اتسعت الموضوعات التي تربط بينها ” ولذلك ترى نظرية الوحدة هذه أن التواصل والاعتماد المتبادل المباشر في قطاع واسع من السلع والخدمات المختلفة بين الأفراد في المجتمعين والعمل الذي يضمن استقرار مدخرات الناس وحصولهم على الخدمات يؤدي إلى التقارب بين هذه المجتمعات والدول الأمر الذي يسهل عملية التكامل ومن ثم الوحدة.
لا فان التكامل يؤدي تدريجياً إلى التمدد والانتشار التكاملي في القطاعات المختلفة، وهو ما أطلق عليه العالم هاس huos مفهوم التمدد التكاملي الذي يؤدي إلى نقل تدريجي لبعض سيادة الدول الأعضاء إلى المؤسسات التكاملية المركزية أو فوقومية .
إذ يرى أصحاب هذا الاتجاه أنه في بداية مرحلة التكوين التكاملي سوف تبرز مشكلة ازدواجية الولاءات، ولكن مع ترسيخ هوية دولة الوحدة سوف تتحول الولاءات إلى نوع من التوازن في الولاء بين الدولة القطرية والاتحادية وسوف تتطور وتنمو عملية بناء المؤسسات لتصبح نواة للحكومة الاتحادية حتى تصل، كما يقول أصحاب هذا الاتجاه، إلى نقطة الانطلاق أو الإقلاع عندها تكون النخب والشعوب في الدول الأعضاء مهيأة لقيام وحدة اندماجية بينها.
ويستبعدون نجاح أي وحدة في المجتمعات المتخلفة التي لا تسير ضمن تكامل مقوماتها او تباين نظمها وثقافاتها.
إن تحقيق الوحدة بين الدول يرتكز على نقل بؤرة الاهتمام من القضايا السياسية الحادة إلى القوى الفاعلة في المجتمع، فالمجتمع تسير نحو التوحيد السياسي إذا توفرت فيه مقومات التكامل المجتمعي، بمعنى أن الروابط بين القوى الاجتماعية تعزز التكامل بين الوحدات السياسية. هنا تطرح نظرية الوحدة أربعة مراحل لعملية الوحدة بين الدول هي:
المرحلة الأولى :
وهي المرحلة التي تسبق عملية الوحدة، وهي ما يسمى بالتوظيفية التكاملية حيث تبدأ القطاعات التي يجري في نطاقها التعامل المتبادل بين الدول وتتسع في إطار نظام الاعتماد المتبادل. هنا يبرز دور العوامل المشتركة التي قد تكون موجودة في مرحلة ما قبل الوحدة، مثل التجانس الثقافي أو التواصل الإقليمي أو الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدول، نظرا لما لهذه العوامل من تأثير على عملية الوحدة.
المرحلة الثانية :
في هذه المرحلة تبرز قوى التوحيد بما لها من طبيعة قسرية (الجيش والشرطة) أو نفعية (الجوانب الاقتصادية والإمكانات الفنية والإدارية) أو مرتبطة بالهوية الاجتماعية (الشعارات والقيم السائدة في المجتمع).
المرحلة الثالثة:
وهي مرحلة التوسع في التكامل فتظهر مع تزايد تدفق السلع والأفراد والاتصالات بين الوحدات السياسية المكونة للإتحاد، وعند سريان هذا التفاعل بين القطاعات المختلفة تتحقق المرحلة اللاحقة.
المرحلة الرابعة:
وهي مرحلة نضوج عملية التوحيد ووصولها إلى ألاهداف المرسومة لها. وتبدو هذه المراحل مترابطة ومتلازمة لتحقيق عملية التوحيد بين الدول.
ويؤكد اصحاب هذه النظرية على بعض المتغيرات المهمة لتحقيق عملية الوحدة، وتشمل هذه المتغيرات، النخب الداخلية والخارجية ودورها في دفع عملية التوحيد ، ومدى تطابق أهداف ومصالح القوى الخارجية مع القوى الداخلية.
إذ تبرز هذه النظرية أهمية سيادة القيم المشتركة ودورها في عملية التكامل بين الدول. فالقيم المشتركة بين الأفراد تعكس بالضرورة عوامل التوافق والتشابه بينها، والتي بدورها تسهل عملية التفاعل بين الأفراد والجماعات، وصانعي القرار السياسي في تلك المجتمعات. فالنظام القيمي والسياسي المشترك لصانعي القرار السياسي في هذه الدول يساعد في دفع عملية التكامل السياسي على مختلف المستويات، ويبّين هذا الاتجاه ضرورة وجود علاقة طرديه بين درجة التكامل ودرجة المشاركة القيمية للمجتمعات، مبينين أن أي نموذج مخالف لذلك ما هو إلا تزييف للواقع وسيقود للفشل .
أن الوحدة التي تتحقق بالتدرج ومن خلال أساليب التكامل والتنسيق والتعاون، بعيداً عن أساليب القوة، مدعومة بالمشاركة الفعلية لمختلف القوى السياسية والاجتماعية والشعبية في إطار من التوازن وضمان الحقوق، تكون أقوى رسوخاً وأكثر ديمومة.
وبناءً على ما تقدم في ضوء نظرية التكامل ، سوف نشير هناء بإيجاز إلى الطريقة التي تم فيها اعلان الوحدة في اليمن .
تُعد الدولتين والشعبين في اليمن منظومتين فكرية وثقافية وحضارية تشكلت عبر تاريخ الإنسان على الأرض وأنتجت هويتين وطنيتين تحملان تراثاً حضارياً وثقافياً متمايزاً كل هوية عن الأخر. فالتمايز والاختلاف الثقافي بين الجمهوريتين الدولتين (الشمال والجنوب) ملحوظ في الواقع الاجتماعي في العادات والتقاليد الاجتماعية ، فلكل من البلدين خلفياته الحضارية والتاريخية والاجتماعية ، ظلت البنية القبلية التقليدية في الشمال محافظة على آلياتها في حين تعرضت البنية القبلية في الجنوب إلى التفكك في مرحلة الدولة في الجنوب. ولم تقوم الوحدة على مبدا التدرج التكاملي بين الدولتين في هذا الاتجاه. إذ لم يتضمن المشروع الوحدوي المعلن بين الدولتين في عام 1990م ، ذلك الاختلاف الواضح بين الشمال والجنوب.
كما أن الحراك السكاني الذي تم بعد الوحدة بين الشمال والجنوب لم يؤدي إلى الإندماج والانصهار بين المواطنين في بوتقة الدولة الواحدة وخلق قيم الوحدة التي تعزز روح الانتماء الواحد للدولة الحديثة ، بل على العكس من ذلك كانت السياسات العامة والممارسات الخاطئة قد ظلت قائمة وظهرت اقبح صورها في الممارسات بعد حرب 1994م ، الامر الذي ساعدت على التباعد بين الشمال والجنوب أكثر مما كان عليه الوضع قبل إعلان الوحدة.
لقد ظل االطرفين محافظين على هوياتهم رغم سيطرة الشمال على الجنوب والزج بسكان الشمال إلى الجنوب لتغيير الخارطة الديمغرافية فيه. حيث لمس الجنوبيون تلك الممارسات التي اقصتهم من المشاركة الفعلية في السلطة والثروة نهائيا ، كما تم الاستيلاء على ثرواتهم وأرضهم ، وحرمانهم منها، يمكن القول ان الوحدة قد تم تحويلها إلى احتلال.
إذ كشفت الحرب وما تلاها من إجراءات بحق الجنوبيين أن المشكلة هي ثقافية، تعود إلى مفهوم الوحدة والحكم، فالوحدة بنظر النخب السياسية الحاكمة في الجنوب هي وحدة شراكة وبناء دولة حديثة تستند إلى النظام والقانون هدفها ايدلوجي في الاساس؛ بينما مفهوم الوحدة عند الشماليين هي وحدة ضم وإلحاق وغنيمة تقوم على مبدأ القوة والنفوذ وأعراف القبيلة هدفها الثروة واغتصاب الجنوب .
على الرغم ممّا اظهرته الدولة اليمنية من صور للحداثة فذلك ما هي الا صور خادعة ، فهي في الأساس تمارس نفوذها العصبوي والتقليدي الذي احتكر السلطة ونتج عنه غياب للتوازن والاندماج الاجتماعي، فالتمايز الذي خلقه النظام أدى إلى إفقار قطاع واسع من أبناء الجنوب ، الأمر الذي أفضى إلى زيادة المعاناة والحرمان بين الجنوبيين والإحساس بالضيم والقهر الاجتماعي .
فبدأ الجنوب متناقضاً مع الشمال ، كما يشير الكاتب الانجليزي بول دريش إلى أن التناقض بين الشمال والجنوب قد نتج عنهما نظامان مختلفان، نظام جمهوري في الشمال، ونظام جمهوري أخر في الجنوب، ولقد كان لهما نتائج مختلفة على البيئة الاجتماعية والسياسية حتى من حيث الطبيعة المتناقضة للدولتين اليمنيتين اللتان تولتا البناء الوطني في ستينيات القرن الماضي، وظهرت بصورة ملموسة في النظام السياسي في اليمن بعد إعلان الوحدة التي أعلنت الوحدة بين نظامين مختلفين تماماً، نظام في الجنوب قائم على أسس التوجه ألاشتراكي ” ايدلوجي” تشكل الملكية العامة لوسائل الإنتاج أساس الدولة وهي التي تحتكر النشاط الاقتصادي وتقدم جميع الخدمات الأساسية للمواطنين والنظام في الشمال قائم على أساس التوجه الرأسمالي يعتمد المصلحة المادية و الانفتاح الاقتصادي يستند على الأعراف القبلية أكثر من القانون .
وعليه فقد كان مفهوم الوحدة مختلفاً لدى النخب السياسية الحاكمة في المجتمعين وهذا الاختلاف يعود إلى طبيعة التنشئة السياسية والثقافية لكل منهما ، فالوحدة في مفهوم النخب الشمالية هي وحدة تستند على الحرب والقتل كما تجسد في الحرب والجرائم المرتكبة ما بعد احرب 1994م ، لا على منطق السلم والتكامل بين شعبين ودولتين ذات سيادة .
يذكر ان الوحدة عند إعلانها الذي اعتمد الطابع الحزبي السياسي نيابةً عن الشعب، وتم التوقيع عليها من قبل الحزبيين السياسيين ( الاشتراكي في الجنوب والمؤتمر في الشمال ) دون مشاركة القوى السياسية الأخرى أو الاستفتاء الشعبي عليها، وهذا الطابع لم تشهده أي تجربة في الوحدات التي تمت عبر التاريخ .مم يؤكد ذلك طبيعة المفاهيم الخاطئة لدى النخب السياسية حول قيام الوحدة ومحدداتها ، وهو دليل على عدم شرعية الوحدة وبطلان إعلانها . كما شكل المفهوم الزائف للوحدة الذي تحمله النخب الحاكمة في الشمال والمتمثل بما اطلقوا عليه عودة الفرع إلى الأصل هو منطق عدمي كان يردد الإمام المستبد الذي حكم اليمن الشمالي اكثر من الف عام ، وذلك يبين ان منطق الامام المستبد لم يتغيّر .
تجدر الإشارة إلى أن الأيام الأولى للوحدة عندما ظهرت الخلافات بين الطرفين، قد أوضحت بإن نظام صنعاء كان يضمر إلحاق الجنوب بسلطته والاستحواذ عليه، وهذا ما أكده الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر رئيس مجلس النواب السابق ورئيس حزب الإصلاح في مذكراته . اذ عمل الطرف الشمالي على عرقلة تنفيذ اتفاقيات الوحدة في المرحلة الانتقالية. وظلّت معظم مؤسسات الدولتين تخضع لقياداتها السابقة لاسيما المؤسسات العسكرية والأمنية .
وفي أول انتخابات بعد الوحدة سنة 1993م، برز التحالف بين حزبي الاصلاح والمؤتمر الذي قام على أسس الانتماء (لليمن الشمالي) ، حيث مثّل هذا التحالف مؤشر إقصاء الجنوب من المعادلة السياسية وضمه للشمال ، وتم إعلان الحرب على الجنوب بعد هذه الانتخابات وانتهت الحرب بانتصار الطرف الشمالي بعد مرور 72 يوماً، كان الجنوب مسرحاً لها دمرت الحرب الخدمات التحتية وراح ضحيتها الآلاف من الشهداء والجرحى والمعتقلين وشردت عشرات الآلاف من أبناء الجنوب إلى الخارج. وتم اجتياح جيش الجمهورية العربية اليمنية ” للجنوب ” وبعد الحرب تم تعديل دستور الوحدة وإلغاء الاتفاقيات التي قانت عليها الوحدة.
إذ كانت الحرب من الناحية العملية قد أنهت مشروع الوحدة بين دولة الشمال ودولة الجنوب نهائياً. وأكدت ذلك الممارسات العملية لنظام صنعاء بانه كان ينوي الانقضاض على الوحدة عند احتفاظه بالمرجعية العسكرية ولم يدمجها بعد قيام الوحدة بهدف الترتيب للحرب وشنها على الطرف هدف الترتيب للحرب غبى شريكه الآخر، وهو ما حدث بالفعل مما يدل ذلك على أن الحرب كان مخطط لها في قرار تفكير القائمين بها.
يذكر ان مجلس الأمن اصدر قرارين 924 و931 في العام 1994م ، دعا فيهما لوقف إطلاق النار وعودة الطرفين إلى طاولة التفاوض، وبينما أبدي نظام الجنوب تفهماً لهذه القرارات بدا نظام صنعاء رافضاً لها، وتم اجتياح الجنوب وقتل وجرح فيها عشرات الآلاف من أبناء الجنوب.
أ.د. فضل عبد الله الربيعي
أستاذ علم الاجتماع – جامعة عدن
رئيس مركز (مدار) للدراسات والبحوث.